الأحد، 27 أبريل 2014

حكومة الأغلبية السياسة : ما لها وما عليها

العراق بلد متعدد الأعراق والأديان والطوائف ويعاني من إنقسام مجتمعي حاد
يبدو أن رئيس الوزراء نوري المالكي قد حسم أمره للذهاب الى حكومة الأغلبية السياسة بعد إنتخابات الثلاثين من نيسان. 
بغض النظر عن حسابات البيدر وما سوف يحصل عليه كل طرف من قوة برلمانية فإن الشيء الوحيد المؤكد هو أن رئاسة الحكومة لن تخرج من المكون الطائفي الأكبر ، وهو ما يعني أن إئتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي سيكون لاعبا مؤثرا سواء فاز زعيمه العتيد بكابينة ثالثة أو لا، ، إذ أنه من الصعب الذي يدنو من الإستحالة  إسقاط إئتلاف دولة القانون من حسابات تشكيل الحكومة، وإن تجربة  التحالف بعد إنتخابات المحافظات الأخيرة بين المجلس الأعلى والصدريين و ”متحدون” لا تتماشى مع إعتبارات الإنتخابات الإتحادية وإن كانت توحي بذلك لكن المجال هنا لا يناسب التفصيل، ذلك ما سوف يبقي مشروع حكومة الأغلبية السياسية حياً في كل الأحوال.
ولكن : هل الطريق الى حكومة الأغلبية السياسية ممهد وسالك وموصول؟، هل هناك ما يستوجب  نقض الشراكة الوطنية وحل عقد تقاسم السلطة ، ( اكره مصطلح المحاصصة الطائفية ) ؟، هل أن حكومة التوافق أو الإتفاق والتعايش السياسي كانت مشلولة وغير قابلة للإستمرار ؟، هل أصبح الإنقسام المجتمعي والتعدد العرقي والطائفي شيئاً من الماضي وتحقق السلم الأهلي ولم يعد هناك سبيل الى التناحر والصدام؟، هل ترسخت أليات النظام الديمقراطي وملامحه المتمثلة في ثقافة قبول الآخر  وحرية الإختيار وتبادل السلطة واستقلال القضاء واقتصاد السوق وتكافؤ الفرص وتقديم الأصلح؟. 
إن الذهاب الى حكومة الأغلبية السياسية دون الحصول على الأجوبة  الواضحة والصريحة لكل هذه الأسئلة وغيرها مما فاتنا ويمكن أن يستدركها الآخرون ، محاولة للولوج في شرك شائك قد يعقد الأمور أكثر ويردي بما تبقى في هذا الوطن من رمق واهن ونفس عليل. أما التشبث بحجة شلل الحكومة وعدم فعاليتها وارتخاء سلطة القرار بسبب تقديم الولاء العرقي والطائفي والحزبي لدى الوزراء وأطراف سلطتي التشريع والتنفيذ فذلك من أضعف الأعذار وأغرب الذرائع، فرئيس الحكومة ينتمي إلى أكبر كتلة سياسية وأوسع تحالف سياسي ، وكما هو معلوم فإنه يستحوذ على سلطات ووسائل نفوذ يندر أو بالأحرى ينعدم أن يكون زعيم سياسي معاصر  أو غابر قد وقع عليها وفاز بها إلا ما كان من شأن زعماء التاريخ القديم والمجتمعات البدائية الذين كان إليهم المرجع ومنهم القرار في كل ما يهم الممالك ويتعلق بالضياع ويقرر مصير الأتباع ، أما تعداد سلطات رئيس الوزراء وصولاته وجولاته في إدارة الدولة وتعقب شؤون البلاد ومتابعة شجون العباد فهو مما يدخل في باب اعلان المعلن وبيان المعلوم.
لم تكن العملية السياسية المبنية على التوافق والشراكة وتقاسم السلطة ترفاً ، ولست ممن يرى أنها كانت مؤامرة من هذا الطرف أو ذاك، ولست من الذين يحكمون على بداياتها من خلال نتائجها ، ولكنها كانت حتمية لبلد متعدد الأعراق والأديان والطوائف انزلق الى استقطاب حاد واصطفاف حذر ومريب بعد حربين طاحنتين : خارجية مدمرة وداخليه فتّاكة ، وهي كذلك ليست بدعة أوجدتها تركيبة المجتمع العراقي وتعقيدات الدولة العراقية ، فالدولة المتعددة الأعراق والطوائف وحتى الثقافات ، والتي يتحتم فيها تقاسم السلطة والثروة لتفادي الصدام والإقتتال من مظاهر المجتمعات البشرية التي تمتاز بالتنوع والتعدد وتعتلج فيها بواعث الهوية  والاستحواذ والتسلط ولها حضور تاريخي وأخر مستحدث ، فمن أمثلة الدول متعددة الأعراق تاريخيا لا على سبيل الحصر المملكة المتحدة التي يتقاسمها البريطانيون الأسكتلنديون والآيرلنديون ، ومن أمثلة الدول متعددة الأعراق الحديثة كندا التي يتشاطرها الإنكليز والفرنسيون ، وهناك العديد الآخر من الأمثلة في القارات المأهولة.
الملفت للنظر هنا أن أغلبية الدول متعددة الأعراق استطاعت في وقت مبكر أن تصمم أنظمة سياسية  مبنية على الشراكة  ومدعومة بتقاسم السلطة والإدارة اللامركزية ، بينما تهاوت معظم الدول متعددة الأعراق التي أقامت ولعقود طويلة أنظمة حكم شمولية ذات مركزية صارمة بحجة الحفاظ على الهوية الوطنية وضمان السلم الأهلي ، تهاوت وتفتت الى دول قومية ، أو أنها في مخاض عسير ينتظر ولادة الدولة القومية أو بناء نظام سياسي محكم قائم على الشراكة وتقاسم السلطة وضمان حقوق مختلف الأطراف وهويتها الثقافية ، ولمن يرغب في المزيد حول هذا النقطة النظر الى كندا وماليزيا والهند وبريطانيا ويوغسلافيا والسودان والإتحاد السوفيتي وخلفه والروسي …
الآن يتعين على من يريد الذهاب الى حكومة الأغلبية السياسية في بلد متعد الأعراق والديانات والطوائف ، بل والثقافات مثل العراق ، أن ينظر بتمعن وتأني الى تجارب الأمم الماثلة للعيان ، وعليه أن يعي العديد من الحقائق والمعطيات التي تكتنف تعقيدات الواقع وعليه أن يحد من فورة الأمنيات والرغبات.
بدءاً : لا يرى المختصون إنسجاما  كافيا بين الديمقراطية والمجتمع المنقسم عرقيا أو طائفيا، بمعنى أن الديمقراطية والمجتمع المنقسم على نفسه تقريبا على طرفي نقيض من عدة أوجه أو على الأقل لا يلتقيان كثيرا على الوجه الأفضل ، غير أن ليجفارت وهو عالم ألماني معاصر مختص بالعلوم السياسية يرى أن الديمقراطية ممكنة في المجتمع المنقسم على ذاته عندما تتعاون النخبة السياسية وتتفاهم فيما بينها حتى وإن ظلّت القواعد الجماهيرية منقسمة ، ويشترط لذلك أن تدخل النخب السياسية في تحالف حكومي تتمثل فيه كافة المجاميع الإثنية وتبنى مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية بتمثيل نسبي يعكس الحجم الحقيقي لكل مكون ويتم توزيع الثروة ومراكز الدولة المختلفة وفق نفس المعادلة على أن تتمتع المجموعات الإثنية - خصوصا تلك المجموعات التي ترى ان مصالحها في خطر - بحكم ذاتي يضمن هويتها الثقافية ولها حق الإعتراض المتبادل على أية إجراءات أو قرارت تتعارض مع ذلك ، فلا غرابة إذن أن يأتي الدستور العراقي  وهو الذي كتب في ظل الرعاية الغربية  متضمنا كل هذه الأفكار والسياقات والأطر ومنصوصا عليها في مواد واضحة وصريحة.
وهكذا يرى ليجفارت وآخرين معه ، وكما ورد في مقال نشرته المجلة الدولية المتخصصة في المجتمعات التعددية ، مجلد ٨، عدد ٢/ ٢٠٠٦ ، أن الديمقراطية ممكنة في المجتمعات المنقسمة بحدة وعمق فقط عندما يتم تقاسم السلطة بدلا من الإستبداد وعندما يتم توزيع النفوذ وعدم حصره في المركز ، إلى حد أن تقاسم السلطة أصبح مرادفا للديمقراطية في مثل هذه البلدان بداية الألفية الثالثة وبعد إنفراط عقد المعسكر الإشتراكي في العقد الأخير من الألفية الثانية، رغم سلبياتها العديدة التي تتمثل في ثلاث وجهات نظر منطقية . الأولى : ديمقراطية تقاسم السلطة والتوافق والتعايش السياسي مشوهة ورديئة لأنها تقلل كثيرا من دور القواعد الجماهيرية . الثانية : أن وضع وتأسيس آليات تقاسم السلطة والثروة تخضع للمساومة على حساب الديمقراطية . الثالثة : هناك دلائل متلاحقة على أنها تزيد من حدة الإنقسامات المجتمعية بدلا من كسرها وإزالتها على الأقل في المدى القريب وفق مفهوم أن  الحواجز المنيعة تخلق جيرة جيدة وآمنه .
 بالمقابل  فإن ديمقراطية الأغلبية لا تناسب المجتمعات التعددية  مطلقا لأنها  - اي ديمقراطية الأغلبية - ببساطة  تساعد على تصدر الأغلبية العرقية أو الطائفية للمشهد وتركز القوة في يديها وتمكنها بالتالي من الهيمنة على مقدرات الدولة وتدفع الأقلية الإثنية دفعا لا مناص منه إلى مواقع المعارضة التي غالبا ما تميل الى الحدة والتطرف في مواقفها بسبب الشك الذي يسيطر عادة على توجهاتها إزاء دولة الأغلبية التي وقعت تحت سيطرة الإثنية المنافسة ، وربما تلجأ في النهاية الى العنف وترى فيه السبيل الوحيد لإستحصال حقوقها.
يبقى الإعتراف أن ديمقراطية التوافق وتقاسم السلطة وإن كانت مناسبة في الدول متعددة الأعراق والطوائف لفترات زمنية  قصيرة ، خصوصا تلك التي عانت من الحروب الخارجية والداخلية ، على أن تكون مجرد توطئة ومدخل إلى السلم الأهلي والنظام الديقراطي الحقيقي واستقرار البلد ، إلا أنها ليست العلاج الناجع والترياق الأمين ، ويمكن للمنصف أن يجد ذريعة معتبرة لرئيس الوزراء العراقي في رغبته الى إلغائها وسعيه الى مغادرتها إذا صدقت النوايا وحسنت المقاصد وأعد لها بشكل جيد وتمت مراعاة معطيات الواقع العراقي واعتمدت متطلبات نوعية تمنع النزوع الى الهيمنة والتفرد وتضمن بناء ديمقراطية حقيقية، وهو ما تفتقر إليه توجهات رئيس الوزراء نوري المالكي ، أو على الأقل لا تتوفر في إدارته للدولة  على مدى ثمان سنوات أية دلائل عليها، بل بالعكس قدم  رئيس الوزراء كل ما شأنه أن يثبت مخاوف النزوع الى التفرد وإلغاء الآخر  وفشل تمام في مد جسور الثقة وبناء أسس المصداقية مع حلفائه وشركائه بل وحتى أعضاء تحالفه . وللحديث صلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق