معضلة العراق ليست عصية على الفهم وليست غير قابلة للعلاج ، ومن نافل القول الإشارة الى عمق المأساة واتساع الألم وفداحة الخسارة الحضارية على الصعيدين : المادي والبشري ، الصورة معلقة على اسوار العالم ومعروضة على أنظاره ليل نهار عبر وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة ، بل أن العديد من المؤسسات الخبرية توصلت الى أسلوب فريد من نوعه بعد تعاظم الخسائر التي لحقت بمراسليها وخوف الناجين من التصريح بالحقيقة لأن سيف الأذرعة المسلحة لمختلف الأطراف مسلط على رقابهم ، فعمدت هذه المؤسسات الى ابرام صفقات سرية مغرية مع بعض افراد القوات المسلحة المشاركين في الأحداث ، أو العاملين في مفاصل الدولة ، حيث ظهرت على السطح أحداث لم يتوقع فاعلوها إمكانية سبر أغوارها أبدا ، مثل تلك المذكرة الشهيرة التي أرسلها المالكي الى الصدر ينذره فيها بأنه ورؤساء جيشه ، جيش المهدي سوف يكونون هدفا للقوات الأمريكية في خطة فرض القانون الأخيرة وينصحه فيها بالتواري عن الأنظار ، ويبدو أن الصدر لم يتسع له الوقت أو أنه استأثر بالمعلومة لنفسه للتخلص من بعض رؤساء جيشه الذين تصدروا عناوين الحدث كالدراجي وغيره .
على نفس المنوال تم تسريب نبأ "السيدة الحديدية" في مكتب المالكي التي تقود مجموعة من المتنفذين لملاحقة الضباط السنة في الجيش ، خصوصا أولئك الذين لهم دور في ملاحقة الميليشيات الشيعية ، وإن كان هذا الأمر نسبي الى حد ما لأن مثل هذه الملاحقة المزعومة تقتصر على وحدات خاصة مرتبطة بقوات التحالف مباشرة وإن كانوا ضمن ملاك وزارة الدفاع ، ومع هذا فأن اربعة عشرا من الضباط الذين وصفوا بالأكفاء تم إقصاؤهم لسبب أو لآخر كيديا .
مثال آخر حدث خلال اليومين الماضين حيث تسريب خبر إعدام 14 من السنة في حي العامل من قبل زملاء الضابط الذي نفذ عملية القتل واقتصر على الإشارة الى اسمه الأول نذير ، حيث قام نذير باعتقالهم من البيوت وسلمهم الى جماعة من مليشيات المهدي لتنفيذ عملية القتل على ملإ من الناس .
كثيرة هي الشواهد التي تجعل المعضلة العراقية أكثر من مفهومة ، حدثني أحد سكان تلعفر من السنّة فقال : بعد العملية الإرهابية الأخيرة التي أودت بحياة أكثر من 140 شخصاً وأصابت ضعف العدد بالجروح ، بعضها وُصِفَ بالخطيرة ، بادر أفراد من الشرطة الوطنية ومغاوير الداخلية الى مهاجمة حي سنّي ونفذوا عمليات قتل عشوائية ثأرا وانتقاما دون تمييز بين صغير وكبير ورجل وإمرأة حتى بلغ عدد الضحايا أكثر من سبعين نفسا ، بالضبط كما لم تفرق الشاحنتان المفخختان اللتان وصلتا الى الهدف برعاية الشرطة أنفسهم مقابل مبلغ تافه لتأمين ما ادّعيَ ( بضم الدال وتشديدها ) أنها مساعدات لأهل تلعفر من الشيعة ، ولم تفرق بين تمزيق صغير أو كبير ، ورجل أو إمرأة . بعد الحادث أعلن وجهاء أهل السنة في المدينة ونسبتهم فيها تفوق نسبة الشيعة ( تقدر بحوالي 65% ) أنهم قرروا مغادرة المدينة وتركها للشيعة : قالوا لهم تعجزون عن محاربة الإرهاب وحماية الناس فتقتلون الأبرياء من نسائنا وأطفالنا وشبابنا وشيوخنا فنحن إذن راحلون ، ومع هذا الخبر نشرت شائعات مرعبة تفيد أن القاعدة تتأهب لضرب المدينة بسلاح كيمياوي فتاك بعد رحيل السنة منها ، فما كان من وجهاء الشيعة الاّ أن بذلوا الجهود المضنية لثني السنة من ترك المدينة وتعهدوا بالوقوف الى جانبهم ضد كل من تسول له نفسه الإعتداء عليهم .
معضلة العراق ليست عصية على الفهم من خلال هذه الشواهد المعدودة ، ولا يحتاج المراقب المحايد الى تتبع المزيد منها ليكتشف أن المعضلة وانحدارها المطرد الى ما هو أسوأ نتاج العملية السياسية غير الموفقة التي يشترك الجميع في تحمل جزء من المسؤولية الأخلاقية والسياسية فيها وإن كان اساسها الإحتلال وسياسات النظام السابق ، ببساطة ودون الخوض في التفاصيل لأن العملية السياسية منذ اربع سنوات لم توفق في تغيير مسار الوضع عكس اتجاه الهاوية ، بل أنها لم تتمكن من ايقاف انحدارها الى الهاوية ولو مؤقتا ، ناهيك عن العودة بها صعودا الى بر الأمان ، ونعني بالعملية السياسية طبعا كلا من الإدارة الأمريكية والطرف المستفيد من الحكومة العراقية ( الشيعة والأكراد ) وذلك لأن كلا من الإدارة الأمريكية والحكومة العراقية قد أصبحا جزءا من المشكلة وليس طرفا في الحل ، وَيَرَيانِ أن الحل أمني عسكري ولم يقتنعا لحد الآن بخلاف ذلك رغم أن خطة فرض القانون التي بدءاها قبل أكثر من شهرين فشلت في تحقيق النتائج المرجوة وبدأت تتحول الى عملية تطهير مذهبي مقيت على أيدي الشرطة الوطنية ومغاوير الداخلية التي ينظر إليها بشكل واسع على أنها مجرد أقنعة فاضحة للميليشيات الطائفية وفرق الموت . قال خلف العليان أمين عام مجلس الحوار الوطني وأحد ثلاثة من مكونات جبهة التوافق السنية لقناة الجزيرة عشية مؤتمر العقد الدولي في شرم الشيخ : كل سني في نظر الحكومة ارهابي تكفيري صدامي يجب أن يقتل ، ولهذا فأن الحكومة تنظر الى قتل أي سني ولو كان عمره يوما واحدا على أنه نجاح للخطة الأمنية ( خطة فرض القانون ) ، ورغم أن هذا التصريح يحمل بعض المبالغة إلا أنه لا يخلو من الكثير من الصحة على الأقل في وزارة الداخلية التي وُكِّل إليها بقصد مسؤولية أمن ناحية الكرخ من بغداد التي يغلب فيها السكان السنة .
بهذه العقلية حضر المالكي الى شرم الشيخ وهو بالمناسبة المؤتمر الثامن عشر حول العراق ، ووصف المؤتمر قبل إنعقاده بأنه يأتي لدعم العملية السياسية ، والمساهمة في إعادة إعمار العراق ، وكذلك حضرت كوندوليزا رايس التي كان همها الأساس البحث في دور ايران وسوريا في العراق . الحمل أمني – عسكري اساسا إذن في نظرهما ، وهو نظر يسير بالقافلة بعيدا عن الهدف ولهذا فإنه لن يصل أبدا ما لم يرجع القهقرى الى الطريق الصحيح الذي يؤدي الى الهدف .
قال محمود عثمان السياسي الكردي البارز الذي طالما أدلى بتصريحات تمس جوهر المشكلة قبل مدة من بدأ الخطة الأمنية : لا توجد رغبة حقيقية للمصالحة لدى أطراف النزاع الشيعي السني المشاركين في الحكومة وخارجها ، كل منهما يعتقد بأنه يستطيع كسر شوكة الطرف الثاني وإخضاعه بالقوة .
أمس شاهدت إعلانا تلفزيونا من تلك الإعلانات التي تشرف عليها حكومة العراق بهدف تشجيع روح المصالحة والتنبيه الى مخاطر انتشار العنف ، وتصرف عليها مئات الآلاف من الدولارات بينما تفتقر المؤسسات الخدمية والتربوية الى أبسط المستلزمات الضرورية الواجبة ، يدور الإعلان حول كل السلبيات التي يقترفها الإرهابيون بحق الشعب العراق وكيف أنهم جبناء والعراقيون شجعان بتحديهم في مواصلة الحياة ، وينتهي بلهجه عراقية دارجة تقول : العراقي أبد ما يعوف اللي يذبح أهله ، وهي جملة تحريضية تدعو الى الثأر والإنتقام بدلا من المصالحة وروح التسامح ..
بهذه العقلية تدير حكومة المالكي فعلا شؤون العراق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق