السبت، 30 يوليو 2011

أيَ أبٍ ضيَّعتِ يا رغد ؟


لم أكن في يوم من الأيام مواليا لصدام حسين ، ولا تقبلت أيا من طروحاته ، فالتوجهات  القومية تتعارض كليا مع إعتقادي الديني والنفسي ، والقومية كانت شعار صدام حسين الأول إعتقادا وعملا ، ولا أجانب الحقيقة إذا قلت أنه كان متلبسا بها . والإستبداد مقيت وعامل قمع بغيض لفطرة الإنسان وإرادته التي جبلت على حق الإختيار والحياة الحرة ، وصدام حسين كان إنموذجا تاريخيا فريدا من الإستبداد . وثالثة الأثافي : الطغيان ، فالطغيان قوة غاشمة لا تعرف الإنصاف والرحمة وتفتقر الى روح العدالة وبعيدة عن مبادئها ، وكان صدام حسين خلاصة لكل طغاة الأرض ، كان الرجل استثنائيا في فكره القومي ، إستثنائيا في استبداده ، إستثنائيا في طغيانه ، لا يختلف أي منصف حول هذه الحقائق الثلاث التي طبعت حياته الحافلة بكل ما هو لا مثيل له ،  وصبغت دوره المؤثر في شؤون العراق وتاريخه المعاصر ، إما مباشرة كقائد أوحد ، أو نصف مباشر كرجل ثان في نظام شمولي ساهم مساهمة فعالة في تأسيسه وإرساء قواعده ، أو أخيرا وليس آخرا بشكل غير مباشر كثائر مغامر لم يتوانَ على الإشتراك في محاولة إغتيال رأس الدولة ، الرئيس الزعيم عبدالكريم قاسم  عام 1959 ، وهو لما يزل في أول سنوات عقده الثالث .
الفكر القومي قاد صدام حسين الى التعامل بقسوة لا تضاهيها قساوة في التاريخ مع مواطنيه الأكراد ، وقد نجح في لجم الجبل العاصي أيما لجمٍ وترويض ، حتى أقام له صروحا رئاسية في قمم لم يحلم بالصعود إليها أحد من الأكراد أنفسهم ، ناهيك من  غيرهم . ودفعه إستبداده الى إلغاء الآخر في العراق الى أن حصل على نسبة مطلقة لا واقعية بكافة المقاييس العقلية والمنطقية في إنتخابات رئاسية سماها الزحف الكبير ، وهي تسمية لا تخلو من مدلولات الإستعباد والإستعلاء ، وسوف تظل نسبة المئة في المئة مثلا سائرا لنرجسية القهر لدى الحكام . أما طغيانه فحدث ولا حرج ، لقد وصل الأمر بمواطنيه العراقيين الى أن يتحاشوا الحديث في غرف النوم إلا بمدحه وتقريضه ، وتربع على عرش العراق بلا منازع ، ليس هذا فحسب وإنما تغلغل نفوذه شرقا وغربا في دوائر القرار العالمي ولم يجد معارضوه ( إن كان حقا هنالك معارضون ) ملجأً ولا منجى ولا موئلا ، وهكذا بقدر إستقراره على العرش وإطمئنانه على حكمه ودولته يئس العراقييون من الخلاص والتغيير وشاعت بينهم نكتة مفادها أن عراقيا موسرا طلب تجميد نفسه لمدة مئة عام نقمة على الوضع البائس في العراق ويأسا وإحباطا من أمل التغيير ، لكن ظنه خاب تماما بعد عودته الى الحياة من جديد ،  وتفاجأ عندما  قصد ساحة الإحتفالات الكبرى في بغداد ليجد الناس تهتف ” هلا هلا بابن حلا ” ، وحلا هي صغرى بنات الرئيس صدام ، وكان المحتشدون  - كما تفيد النكتة - يحتفلون بإبنها الرئيس الذي ورث الحكم أبا عن جد ويصفقون له ويرقصون كما كانوا يفعلون بحماس لجده العتيد .
وهكذا – وأستطيع أن أقسم – بأنني قضيت ما يربو على العشرين سنة أنتظر بفارغ الصبر  أن تحدث معجزة ما تطيح بصدام حسين ، وواصلت الإستماع بلا كلل  الى نشرة الأخبار في التلفزيون العراقي ، وليس الى أية وسيلة إعلام أخرى لأنها طالما نقلت لنا أنباءً ما لبث أن تبين عدم صحتها ، علني أستشف من بين السطور ما يوحي بقرب إنتهاء الرجل أو يشي بضعفه وتراجعه دون جدوى ، ليس لرفع الظلم وإنصاف الضحايا وإقرار عيون الثكالى وتحقيق السلم الإجتماعي وتهدئة بال الناس بعد سنوات طويلة من الحروب والنزاعات الداخلية والخارجية فحسب ، ولكن لأتنفس مع الآخرين هواء الحرية التي طالما غنى بها الشعراء وأسهب في الحديث عنها الكتاب والمفكرون وتغزل بها الحالمون وازدردوها بؤسا وحرمانا ، وصرفنا نحن نور أعيننا وساعات عمرنا الطويل في قراءة كل ذلك وحفظه عن ظهر قلب ، ولكن يا للخيبة فعندما حدثت المعجزة لم نزدد إلا مرارة ومعاناة ، فطوال أكثر من عدة شهور كنت أشعر بالغثيان عندما أرى آلية أمريكية وإن عن بعد ، كان دوارا شديدا ينتابني وأوشك أن أتقيأ ، وكنت أستغرب كيف يمكن لعراقي الإقتراب من محتل أمريكي بود أو لعمل أو لتعامل أو لتعاون مهما كان الغرض نبيلا ، ثمّ يتحدث إليه بشكل طبيعي وقد يصافحه ، أقسم أنني صافحت جنديا بريطانيا صدفة ومضطرا فلازمت راحتي حكة غريبة لبعض الوقت ، لم تكن إذن تلك هي المعجزة المنتظرة لي أنا على الأقل ، لقد إكتشفت بسرعة غير متوقعة أن معجزة الإطاحة بصدام حسين لم تكن سوى جنوحا أشد إنحدارا الى هاوية المعاناة .
والأدهى والأمرّ  أن الحكومات العراقية المتعاقبة من مجلس الحكم الى المالكي لم تدع فرصة واحدة تمر منذ الإطاحة بصدام حسين الى ساعة قراءتك لهذه الكلمات المتواضعة – عزيزي القارئ – إلاّ وأثبتت أنها فاشلة ، وأنها لا تصلح للحكم وأنها لم تسعى إلاّ لزيادة معاناة العراقيين وبؤسهم ، لقد تهاوت بفضلهم كل مستويات النشاط الحياتي الى الحضيض ، بل الى دون الحضيض ، وأنهم لم يرتقوا الى مستوى الحكام ولم يستطيعوا أن يسموا فوق عدوهم الأول وهو يصعد الى المشنقة بكل صبر وأناة ، بل وبكل إيمان على ما يبدو والسرائر موكلة الى الله تعالى ، لا بل لم يستطيعو أن يحاذوه حتى . لقد ارتجفوا من الحقد عندما وجب عليهم أن يحققوا العدالة ، وفاضوا بالنزعات الطائفية عندما وجب عليهم أن يكضموا غيضهم ويكونوا خدما للقضاء  ، وبدرت منهم تصرفات لا تليق عندما وجب عليهم أن يتجالدوا أمام الموت ويسترجعوا ويتذكروا الموقف الذي لن يتخطاهم مهما طال الأجل ، أما صدام حسين الذي كان يرفل بالسلاسل في يديه ورجليه ويقوده جلادوه الى المشنقة فقد رفض أن يهتز حيا ، ورفض أن يهتز ميتا ، لقد نقل أن صدام حسين لم يرفس  رفسة الموت التي تفرضها الإنفعالات الحيوية عندما يطبق الخناق على عنق الكائن الحي أيا كان ، لقد سلم الروح بنفس الهدوء الذي تقدم به الى المشنقة ، وما ضره إذن والصاغرون يركلونه وهو جثة هامدة بلا إرادة .
لك الله يا رغد ، أي أب ضيعت يا بنت الناس .؟  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق