
لا أدري فيما إذا كان الناخب الأمريكي ، والمواطن الأمريكي عموما يقع في الحيرة من أمره اتجاه الزعامات السياسية في بلده مثلما نقع نحن في
حيرة من أمر تلك الزعامات التي تغير إتجاهاتها بين عشية وضحاها وتتلون حسبما تشتهي ، الرئيس بوش مثلا يشعر بالإحباط من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ويوكل أمر تبديله الى شعبه في يوم ثم يعود ويصفه بالرجل الطيب الذي يؤدي عملا صعبا ويعلن على الملأ أنه يدعمه في اليوم التالي ، لو أن أحد رؤسانا الكرام! فعل ذلك للعنا سنسفيل أجداده ونعتناه بأحط الأوصاف ( لا يفوكم طبعا بأننا كنا سنفعل ذلك في دواخلنا أو في الفراش الزوجي حصرا بالنسبة للمتزوجين ) .
الديمقراطون فجأة بدأوا إهتماما ملفتا بالشأن العراقي بعد فشلهم في فرض جدول للإنسحاب على الرئيس بوش وصاروا يتحدثون عن مخاطر الإنسحاب المفاجئ ويدعون الى تغيير رئيس الوزراء العراقي .
طبعا هذا مثال من تبدل المواقف للزعامات السياسية الأمريكية ويمكن تتبع العديد من الأمثلة المشابهة خصوصا في المواسم الإنتخابية كما هو الحال في هذه الأيام .
ليس هذا فحسب ، بل أن تبدل هذه المواقف يقابله في أحيان أخرى إصرار غير مفهوم على تكرار نفس الخطأ ، يدفع المراقب الى الإعتقاد أن هناك نوع من "التبلد" التاريخي عند الأمريكان يمنعهم على ما يبدو من الإستفادة من تجاربهم ، حتى تلك القريبة .
كما هو معروف إتجهت منطقة الشرق الأوسط الى مسار سلمي مكثف بعد حرب تشرين استهدف حل القضية الفلسطينية وانتهى برحلة الرئيس السادات الى اسرائيل ليعلن تحت قبة الكنيست أن حالة الحرب انتهت ويدعو اليهود الى الإمساك بيد السلام الممدودة إليهم بقوة ، ورغم أن مبادرة الرئيس المصري الراحل لم تؤت أكلها في حياته إلا أنها حققت فيما بعد ما دعاه السادات " كسر الحاجز النفسي بين العرب والإسرائليين " واصبح الحديث عن السلام هو أساس الجهود الرئيسية في المنطقة ، نتج عنها فيما بعد إتفاقيات أوسلو الشهيرة وعودة القيادات الفلسطينية التاريخية الى فلسطين وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية ، ثم انخرطت العديد من الدول العربية في علاقات وتفاهمات علنية بعد استمرت في فعل ذلك سرا لسنوات طويلة مع الدولة العبرية التي كان العرب يضعون أية شركة تتعامل معها ، مهما كان نوع هذا التعامل في قائمة منع التعامل السوداء .
عموما كانت المنطقة تتجه نحو المزيد من الإستقرار ولو ببطئ ، قبل أن تنبثق بؤرة توتر أخرى ممثلة فيما عرف وقتها بثورة المساجد ، أو ثورة آيات الله ، أو ثورة الملالي التي أطاحت بعرش الطؤوس في ايران ، وسوف نلاحظ أن هذه الثورة سحبت بساط التوتر من تحت القضية الفلسطينية لتحتكره بامتياز ابتداءا من نداءات تصدير الثورة والحرب العبثية مع العراق الى تهديد أحد قادة الحرس الثوري قبل أيام بحرق الخليج اذا أقدمت أمريكا على ضرب بلده ، ومثل هذا التعليق لا يصدر الا من حقد دفين ، وإلا من الأولى أن يدعو هذا القائد الصنديد الى كسب دول المنطقة ودعوتهم الى المساعدة لدرء الخطر القادم خلف التهديد المزمع ضد بلده ، وإلا إذا كانت القضية ضرب المصالح الأمريكية فإنها موجودة في كل مكان حول إيران وليس في الخليج وحده ، في تركيا ، في الباكستان ، في دول الإتحاد السوفيتي المقبور …..
لقد تخلت أمريكا عن الشاه ، أمريكا جيمي كارتر تخلت عن حليفها القوي الشاهنشاه أريامهر محمد رضا بهلوي لصالح آية الله روح الله الخميني الذي اسس جمهورية اسلامية مذهبية ، هي الأولى من نوعها في العصر الحديث ، ويعتقد أن لتجربة السادات في دعم الحركات الإسلامية ضد خصومه السياسيين خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي كان له الأثر الكبير في الدعم الأمريكي للحركات الإسلامية لا حقا في كل من ايران وأفغانستان ، والملفت للنظر أن الحركات الإسلامية بادرت الى ضرب داعميها لما اشتد عودها ، فكان السادات ضحية حادث المنصة الشهير على يد متطرفين اسلاميين خرجوا من تحت عباءة السادات نفسه . .
الأمريكيون لم يكون أحسن حالا ، فما لبث الطلاب الملتزمون بنهج الإمام الإمام الخميني بعد نجاح الثورة مباشرة أن حاصروا السفارة الأمريكية في طهران وأخذوا منتسبيها رهائن ، وكان تعامل إدارة جيمي كارتر غير الموفق مع ملف السفارة المخطوفة أحد أهم الأسباب التي أدت الى خسارة الديمقراطيين في إنتخابات الرئاسة عام 1980 لصالح الجمهوري رونالد ريغان ، وأصبحت أمريكا هي الشيطان الأكبر في الأدب السياسي الإيراني .
لم يتعظ الأمريكان من تجربتهم المريرة مع الخمينيين الإسلاميين ، وعادوا ثانية للإنخراط في دعم " المجاهدين" الأفغان ضد الإحتلال الروسي . بلغت موجة الجهاد أوجها في ثمانينيات القرن العشرين واستقبل بعض قادة الجهاد في البيت الأبيض نفسه ، إلا أن ذلك لم يمنع الجيل الثاني من المجاهدين الى نعت أمريكا برأس الكفر لاحقا ليتوج الحصاد الأمريكي من زرع " الجهاد" الأفغاني بأحداث 11 سبتمبر التي أدخلت العام كله في نوع جديد من الصراع الدموي الذي لم يشهد التاريخ البشري له مثيلا.
في العراق ، وهذا هو حجر الأساس في مقالنا المتواضع هذا ، عاد الأمريكيون ليضعوا أيديهم في أيد أحزاب إسلامية أقل ما يقال عنها أنها لا يمكن في يوم من الأيام أن تلتقي مع الخط الأمريكي لقيادة العالم ورؤيتها للنظام العالمي الجديد ، والفوضى التي يشهدها العراق ليست إلا نتاج حتمي لهذا التناقض الدفين بين اتجاهات الأحزاب الإسلامية التي سلمتها أمريكا قيادة البلد ورؤيتها السياسية للمنطقة . من ناحية هذه الأحزاب هي حليف استراتيجي لإيران وليس لأمريكا ، ومن ناحية أخرى تسعى أمريكا الى إقامة شرق أوسط جديد مقام على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وهذه الأحزاب منغلقة على ايديولوجية مذهبية لا ترى حقا للحياة لمن لا يؤمن بآيديولوجيتها المذهبية ، وهكذا وجدت أمريكا نفسها تحارب على جبهات متداخلة ومتناقضة ، فهي التي تدعم الحكومة وتحرسها وتضمن بقائها ، وهي التي تحارب الميليشيات المذهبية التي تدعمها الحكومة وترعاها ، وهي التي تعمل على ضرورة إشراك العرب السنة في العملية السياسية بفعالية حقيقية وهي التي تحارب المقاومة التي يتعاطف معها هؤلاء .
أمريكا تحارب إرهاب القاعدة بين مطرقة الميليشيات التي تعمل برعاية الحكومة وسندان المجاميع المسلحة التي تباركها المعارضة . وهي تريد جمع الحكومة والمعارضة في حكومة وحدة وطنية ، كيف تنجح ؟ لا أدري .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق