لا شك أن الأكراد تعرضوا لقمع قاسي واضطهاد أليم ، ولكنهم - لا شك أيضا - لم يكونوا المكون العراقي الوحيد التي تعرض لذلك القمع والإضطهاد ، رغم أنهم يستطيعون أن يدعوا ، وبحق على الأرجح ، أن معاناتهم كانت أشد بأسا وأشد تنكيلا ، فضلا على ظلم تاريخي شطب الوجود القومي الكردي ومزقه جغرافيا بين ثلاث من أكثر أمم الأرض زهوا في الإنتساب القومي والإعتداد التاريخي الى حد استصغار الآخرين ، الفرس والأتراك والعرب ، حتى أصبح ترقيع هذا التمزيق الجغرافي في كيان واحد صعبا إن لم يكن مستحيلا ، على الأقل في الوقت الراهن وعلى مدى المستقبل المنظور . والأكراد ، للإنصاف ، واعون لهذا الواقع ويتصرفون على اساسه ، ولهذا فإن القيادات الكردية تعمل على تثبيت أركان البيت الكردي سياسيا وإقتصاديا وعسكريا على الأرض أكثر من سعيها لبناء موقع على الخريطة السياسية الدولية ، وإن لم يمهلوا ذلك تماما ، وينفون في كل مناسبة أي جهد إنفصالي أو رغبة في إعلان كيان سياسي مستقل ، دون أن يجردوا قومهم من حق تقرير المصير ، شأنهم في ذلك شأن بقية أقوام الأرض .
جلال الطالباني ، الرئيس الكردي لما كان نموذجا للدولة القومية العربية المعاصرة ، يكرس دوره الرئاسي لهذا الهدف بالتنسيق مع أخيه اللدود مسعود البارزاني ، حيث دخل الإثنان سوية في تحالف أشبه بالزواج الكاثوليكي مع الشيعة . ورغم أن الطالباني ذو تاريخ حافل بالتحالفات المبنية على المصالح ( من قال أن هناك تحالفات معقودة لغير المصالح ؟) ويتمتع بخبرة نصف قرن من اللعب على حبال السياسة والمراوغة في دهاليز المقاومة المسلحة والتمرد بمقتضى الحال المفروض على الأكراد كما أسلفنا ، بحيث اضطر الى الدخول في الأمر ونقيضه ، ولست ألومه على ذلك ، رغم ذلك فإنه تخونه الحصافة والموضوعية في بعض الأحيان مثل إعلانه الفج بأن أكثر ضحايا الإرهاب من الشيعة ، وذلك إن صح فلا ينبغي لرئيس الدولة ، راعي الشعب كله أن يعلنه في مثل وضعية البلد الذي يمور بالحساسيات الطائفية المفرطة في التعصب والغلو ، ناهيك عن القول أن ضحايا الإرهاب الطائفي على يد فرق الموت والميلشيات الطائقية المحلية النظامية وغير النظامية ، وتلك التي تنتمي مباشرة الى المخابرات الإيرانية التي تنفذ ثارات الحرب العبثية بين الراحلين غير المؤسوفين عليهما : الخميني وصدام ، لا تقل عن ضحايا إرهاب القاعدة والتشكيلات المسلحة المتحالفة معها من مذهبية تكفيرية وقومية وبعثية وانتقامية ، إن لم تكن تفوقها عددا ومقتا ودموية .
يمكن للمراقب أن يلاحظ أن مثل هذه التصريحات التي تصدر من الطالباني محسوبة تماما بما يتوافق مع تأرجح ميزان المصالح المتبادلة التي تحكم التحالف الشيعي الكردي ، وتتمثل كفتا ميزان التحالف باختصار في ضمان دعم الأكراد لحكومة الإئتلاف مقابل ضم مدينة كركوك الغنية بالنفط الى أقليم كردستان ، ويعلم الطرفان أن ثمن هذا التحالف باهض ولكنه شر لابد منه ، فالأكراد لن يحصلوا على دعم أي طرف عراقي آخر في مسألة كركوك وليست لديهم فرصة للسيطرة على المدينة عنوة خصوصا وأن المسألة ذات بعد أقليمي خطير ، والإئتلاف لن ينعم بما حققه من إنجازات طائفية في إدارة البلد بدون دعم الأكراد ، ويبقى خصوم الإئتلاف بلا أنياب ما دام الأكراد خارج مجالهم الحيوي ولم ينخرطوا في دائرة نفوذهم ، وبسبب حساسية مقومات هذا التحالف فإن توازن ميزانه يتعرض للتهديد بين حين وآخر .
إبراهيم الجعفري وقع ضحية هذا التحالف عندما جمد لجنة تطبيع الأوضاع في كركوك وفق المادة 140 من الدستور ، وعطل تحويل حصة الأقليم في موازنة عام 2006 بنصيحة غير محمودة من الدكتور أحمد الجلبي ، قال الجلبي بفخر في مؤتمر صحفي عقده قبل شهرين تقريبا في لندن : الجعفرني استشارني فيما كان عليه أن يحول عدة مئات من الدولارات الى حكومة أقليم كردستان ، فقلت له ولا سنت واحد ، وفقد على أثر ذلك ثقة الأكراد ولم يشفع له فوز تحالفه بنصف مقاعد البرلمان ، ولا تغلبه على غريمه عادل عبدالمهدي في إقتراع داخل الإئتلاف الشيعي نفسه ، واضطر الى العودة الى حيث أتى ، عاصمة اللجوء ، لندن .
المالكي وعى الدرس والأكراد لم يبخلو عليه ، قبل خطة بغداد وعند اشتداد الضغط الأمريكي عليه وخروج الأنباء حول منحه فرصه أخيرة موقوته وتصريح الرئيس الأمريكي أن صبر إدارته ليس بلا حدود خرج الطالباني بتصريحه المذكور حول ضحايا الشيعة وأعلن دعمه لحكومة المالكي ، ولست بقائل أن هذا التصريح هو الذي أنقذ المالكي ولكنه لا يخلو من تأثير على السياسة الأمريكية المبنية في الأساس على تصنيف الشيعة والأكراد كحلفاء لا ينبغي التفريط في أحدهما مع تصاعد الحملات الداخلية على هذه السياسة .
تبنى الرئيس الأمريكي الخطة الأمنية الجديدة ولم يكترث للعديد من التحديات الداخلية وأرسل 20 ألف جندي آخر الى العراق في الوقت الذي يطالب أغلبية الشعب الأمريكي بالإنسحاب من العراق وعودة الجنود الى أرض الوطن .
فعّل المالكي لجنة التطبيع وأعاد تشكيلها برئاسة وزير العدل وأطلق تخصيصاتها المالية وبسرعة قياسية أعدت اللجنة توصيات فشلت في تحقيقها على مدار أكثر من سنة ، ووجدها المالكي على مكتبه قبل شهر تقريبا ، مع بداية الخطة الأمنية ، وهو يعلم أن أقوى حلفائه داخل الإئتلاف ، التيار الصدري ، يعارض التوجهات الكردية حول كركوك ، ومع شعوره بالقوة في تقدم الخطة الأمنية ( أعتقد أن العديد من الفرقاء لا يشاركونه هذا الإنطباع ) لم يرفض المالكي التوصيات ولكنه حاول عرقلتها بتخفيض التعويض للعائلات التي ترغب بالعودة الى مناطقها الأصلية من عشرين مليون دينار الى عشرة ملايين فقط ، وفعلا رفضت اللجنة وممثلوا العوائل العربية إجراء المالكي . إلا أن الأخير لم يصمد كثيرا بعد اتضاح تقهقر إنجازات الخطة الأمنية وارتفاع ضحايا آذر بنسبة 28% عن ضحايا شباط وعاد ووافق على المقترحات الأصلية ، بل أن وزراء التيار الصدري داخل مجلس الوزراء وافقوا على التوصيات مما دفع برئيس الكتلة داخل البرلمان الى القول أن موقف الوزراء شخصي ولا يعبر عن رأي التيار وسوف يخضعون لمساءلة أمام التيار .
الطالباني كان حاضرا كالعادة وشكر جيش المهدي لأنه أوقف عملياته لمساندة الخطة الأمنية ، واذا كان التصريح عن الضحايا الشيعة يفتقر الى الحصافة فإن هذا التصريح ( مع تقديري للرئيس ) يكاد يكون أخرقا ، فالإيقاف لضرورة ما لا يلغي الإستئناف عند زوال تلك الضرورة فهل يحاول الرئيس شرعنة الإرهاب الطائفي مقابل كركوك ؟.
إنها معادلة غير نزيهة بالتأكيد ، فالمطلوب هو إنهاء دور الميلشيات وخصوصا جيش المهدي وفرق الموت وليس إيقاف عملياتها يا سيادة الرئيس .!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق